إن لجوء هذه النشيطة الأمازيغية إلى إحراق العلم الوطني كان يبطن في طياته التعبير عن قطع العلاقة السياسية التي تجمع بين هذه الناشطة والبلد الذي تنتمي إليه؛ وذلك على غرار ما قام به بعض الشباب بهولندا بتمزيقهم جوازات سفرهم المغربية، معلنين تخليهم عن الجنسية التي تربطهم بالمملكة وعن شرعية النظام الذي يحكم بالبلاد، معتبرين إياه نظاما مخزنيا وجائرا ينتهك حقوق المواطنين، بمن فيهم النشطاء المعتقلون على خلفية أحداث الريف؛ وبالتالي فعملية إحراق العلم لم تكن كما وصفها بعض نشطاء الحركة الأمازيغية سلوكا متهورا أو أرعن، بل إن ذلك تعبير عن انفصال ليس فقط فيزيقيا، بل هو تعبير عن انفصال سياسي عن البلد المنتمي إليه.
لقد سن المشرع المغربي مجموعة من الإجراءات الزجرية في حق كل من أهان العلم الوطني، إذ تم مؤخرا اعتقال مواطن فرنسي ظهر في شريط وهو يلتحف العلم المغربي ويقوم بحركات غير أخلاقية، وأحالته النيابة العامة على المتابعة في حالة سراح، بتهمة “إهانة العلم المغربي”؛ وبالتالي فإحراق إحدى ناشطات الحركة الأمازيغية للعلم الوطني بفرنسا، إذ كان قد جنبها ملاحقتها قضائيا لتواجدها خارج التراب الوطني، فإن هذا لم يمنع من أن هذه الواقعة كانت لها ردود فعل عنيفة من طرف مختلف مكونات الرأي العام المغربي.
لكن هذا التعبير التمردي والانفصالي يخلط بين أمرين رئيسين؛ بين التمرد على النظام وانتقاد سياسته وبين احترام رمز سياسي مشترك تطلب الكثير من التضحيات لبلورته والدفاع عنه؛ فبالإضافة إلى أنه يشكل رمزا لهوية سياسية لكل المغاربة، سواء داخل البلاد أو خارجها، فهو رمز ضحى من أجله العديد من شباب المغرب، سواء في مواجهة رصاص قوات الاحتلال، أو في الدفاع عن حدود البلاد واسترجاع أراض تابعة للمملكة؛ ومن أجله سقط جنود وضباط قتلى. كما حرصت العديد من الفعاليات الفنية والرياضية والأكاديمية في كل تتويج أن تتلفع بالعلم الوطني كتعبير عن الروح الوطنية والتركيز على الانتماء إلى هذا الوطن وحبه؛ وبالتالي فقد أجمعت كل الفعاليات بمختلف أطيافها ومنحدراتها الاجتماعية والجغرافية على إدانة هذا العمل الذي وصف بالشنيع، معتبرة ذلك مسا بالسمعة الوطنية.
وعموما فإن إحراق العلم الوطني إذا كان حرك الشعور الوطني وأثار استياء كل مكونات المجتمع المغربي بكل أطيافه وحساسياته، فقد نبه إلى ضرورة الابتعاد في أي مسيرات شعبية أو تظاهرات احتجاجية، خاصة داخل المغرب، عن أي إساءة إلى الشعور الوطني، سواء بالنسبة للمغاربة أو لشعوب أخرى؛ إذ ليس من المقبول أن يتم إحراق أعلام دول أجنبية رغم عدم الاتفاق أو انتقاد سياسات حكامها وقرارات حكوماتها، فعدم الاتفاق مع سياسة الإدارة الأمريكية أو أي حكومة أجنبية أخرى لا يبرر إحراق علم الشعب الأمريكي أو دوسه بالأقدام، في وقت يمكن إحراق صورة رئيس أو وزير أو أي مسؤول أجنبي آخر؛ لأن هؤلاء زائلون أما العلم فهو باق ممثلا لهذا الشعب أو ذاك. فكل الشعوب لا تستسيغ، تحت أي مبرر من المبررات، سواء كانت سياسية أو غيرها، أن تهان كرامتها السياسية من خلال تدنيس رموزها الوطنية، وعلى رأسها الأعلام الوطنية. كما أن أي شخص، سواء كان أوربيا أو أمريكيا أو آسيويا أو إفريقيا، فإنه لا يقبل أن يرى علم بلاده وهو يحرق أو يداس بالأقدام في أي مسيرة شعبية أو تظاهرة احتجاجية تنقلها وسائل الإعلام أو القنوات التلفزية والفضائيات عبر ربوع العالم؛ إذ إن أي علم لا يشكل رمزا سياسيا فقط مرتبطا بنظام أو دولة، بل هو قبل كل شيء حمولة تختزن كل التراكمات التاريخية والمعالم الحضارية والخصوصيات الثقافية والتضحيات السياسية لأي شعب من الشعوب.