أخباركم : ذ/ عبد المجيد صراط
عنوان بارز عن اختلالات تكتنف إصلاح منظومة التربية والتكوين
تكتسب ظاهرة الغش مكانتها في نفسية التلميذ منذ الأيام أو الشهور الأولى للموسم الدراسي، وما تفتأ تتعمق وتتجدر عندما يستسلم التلميذ لهذه الرغبة الجامحة التي يعتبرها العصا السحرية التي ستختصر لديه الكم الهائل من المواد المقررة في الامتحان، وهذا ما يؤكد أن التوعية والتحسيس في هذا الوقت المتأخر ونحن على بعد أيام من امتحانات الباكلوريا، لن يكون له مفعول، خصوصا في هذه الفترة التي تعتبر حساسة في حياة التلميذ، حيث بقدر ما ينكب بعض التلاميذ على نهج أسلوب ناجح في التعامل مع المواد محل الاختبار، بتحصيل ينبني على معرفة الكيف، بقدر ما ينشغل كثيرون، بإنتاج ما نسميه في عاميتنا ب”لحجابات”، وتتحرك مع هذه ” الآلة الإنتاجية” آلات النسخ، وأساليب تكنولوجيا متطورة حملتها معها الهواتف الذكية من تقنيات الـ”بلوتوت” والـ”فايسبوك” والـ”واتساب” وأساليب أخرى لا يعلمها إلا الله، لأن الإبداع في هذا الجانب تتطور تقنياته مع التطور التكنولوجي.
وفي هذا الشأن يتساءل العديد من المهتمين بالشأن التعليمي، كيف توجه أصابع الاتهام دائما للتلميذ، فيما أن مسؤولية الغش يتحملها الأستاذ بدوره، والمنظومة التعليمية ككل، باعتبار أن التجاء التلميذ إلى الغش، ما هو إلا تحصيل حاصل، أي ماذا عساه أن يفعل أمام خيارين لا ثالث لهما، إما النجاح أو الرسوب، وكيف يمكن له أن يواجه الكم الهائل من المقررات والبرامج الدراسية، التي لم يستوعبها أصلا؟.
كما يؤكد العديد من التلاميذ الذين يجدون أنفسهم أمام ضغط الوقت، غير قادرين على هضم المقرر، لأنه طويل، بالإضافة إلى الخوف من الأسئلة ومن التنقيط ومن الأجواء غير المتوقعة التي ستمر منها الامتحانات، حيث يجدون أنفسهم أمام حالة استنفار قصوى حول إمكانية أن ينتابهم النسيان، وتذهب جهودهم طيلة سنة كاملة في مهب الريح، وهذا ما يدفع الكثيرين منهم في العديد من المرات إلى الالتجاء لتدوين بعض الدروس في أوراق صغيرة، ليس للغش ولكن للإحساس بالأمان والاطمئنان.
إن المشكل ليس في كون المواد المعرضة أكثر للغش هي المواد التي تعتمد على الحفظ، بل في سوء فهم وغياب التواصل بين المدرسين والتلاميذ، بحيث أن كل المواد مفروض أن تلقن بمنهجية هي في حد ذاتها “علمية”، والتنقيط عليها يعتمد على ضوابط علمية، أي أن التنقيط لا يهتم بالكم بل بالكيف، فمسؤولية الغش، يتحمل نصيبها الأوفر بعض المدرسين، لكونهم لا ينبهون التلاميذ إلى أهمية التركيز على ما هو جدير في الجواب بالتنقيط.
ومن جهة هناك قسط آخر من المسؤولية تتحملها المناهج التربوية التي تفتقر إلى التجديد والابتكار في أسئلة الامتحان، وهي تستقي مخزونها من الحفظ أكثر من التقييم والفهم وتشخيص قدرة التلميذ على التحليل والتركيز، وهذا ما يذكي جذوة التلميذ للغش باعتباره إثباتا للذات وتحقيقا لهدف النجاح، مهما كانت الوسائل، أي الغاية تبرر الوسيلة، وهذا ما يفرض مراجعة المناهج التربوية، مراجعة علمية دقيقة تعتمد على نظريات علمية سيكولوجية وبيداغوجية معاصرة.
إن أسلوب الزجر والردع والعقاب الذي تطرحه نهاية كل موسم دراسي وزارة التربية الوطنية من خلال العديد من المقتضيات الزجرية المتضمنة في دليل المترشح في امتحانات الباكلوريا، لن يكون حلا لتنامي ظاهرة الغش التي تطورت بشكل ملفت، لأن المعالجة يجب أن تكون مبنية بدءا بالتركيز على المهارات والمفاهيم المهيكلة للدروس والاهتمام بالمواضيع التي تتيح للتلاميذ إمكانية التفسير والتقويم وإشراكهم في بناء الدروس وذلك بتكليفهم بتجميع الوثائق والبحث عن المعلومات.
الغش في الامتحانات هو عنوان بارز على فشل المؤسسة التعليمية الوطنية في القيام بدورها في التربية والتكوين، فتوصيف هذه الآفة الاجتماعية ب”الظاهرة”، يعني أن قاعدة الممارسين لهذه العملية تتسع إلى أن كسرت الاستثناء، واجتثاث مسببات ودوافع النزوح إليها، لا يتطلب فقط إصدار مذكرات وزارية تحث المجالس التربوية على الزجر والمعاقبة، إنما الأمر في أمس الحاجة إلى تشريح ومقاربة تعطي قيمة للعمل، فإذا كان إجماع جل التلاميذ يتجه نحو إدانة المقررات الدراسية وأسلوب التلقين، فالمدرسون بدورهم لم يخرجوا عن نفس الطرح، ويؤكدون أن الخلل مركب يبتدئ من الكم الهائل للمواد الدراسية المطروحة للامتحان ويمر عبر الظروف الاجتماعية والمادية لرجال التعليم، ويصل إلى صعوبة تدبير الموسم الدراسي، وكذلك الإحاطة بجميع متطلباته الديداكتيكية.
لكن أمام هذا، فالوزارة الوصية، ترى أن الحل هو إخضاع التلاميذ للمراقبة والتأديب، وبهذا اختارت أن تمسك العصا من مقدمتها لتنهال على الغشاشين من التلاميذ والمتهاونين من الأساتذة، عوض أن تواجه الأمر بإعداد تقييم يلامس أهم الدوافع التي أدت لتنامي هذه الظاهرة، واستفحالها، إلى درجة أن البعض يعتبرها صنيعة محبوكة للمسؤولين عن التعليم، بغية التحكم في نسبة النجاح، حيث أكد أكثر من رأي أن التلاميذ أصبحوا يقيسون نسبة النجاح في كل موسم، بمدى حدة أو تساهل مراقبة الغش أثناء الاختبارات.
وتعود آخر مذكرة أصدرتها وزارة التربية الوطنية إلى تاريخ 8 مارس 1999، حول الغش في الامتحانات، تطرقت بأسف شديد لظاهرة الغش وطالبت إلى جانب التنديد والشجب بهذه الممارسات المشينة، وشخصت المذكرة التي تحمل رقم 99/3 الحالة التي وصل إليها التلاميذ في تعاطيهم مع ظاهرة الغش في كون الظاهرة أصبحت متفشية بين المترشحين، من خلال إقبال الكثيرين منهم على ممارستها جهارا، بل أن بعضهم من يطالب بأحقيته في النقل، بما في ذلك التجاء العديد منهم لاستعمال أسلوب التهديد والترهيب اتجاه من يحرسهم في الامتحانات، وسجلت المذكرة، أن الغش أصبح يمارس في عقر المؤسسة التي وكل إليها المجتمع أمر تربية الأجيال على التمسك بالفضائل، وخلصت المذكرة الوزارية المذيلة بتوقيع إسماعيل العلوي، إلى أن المؤسسة أصبحت قاصرة عن أداء مهمتها، كما فقدت الامتحانات مصداقيتها.
ولمواجه الظاهرة، اقترحت المذكرة تأسيس لجنة أطلقت عليها لجنة “الحيطة والوقاية”، التي تتألف من ممثلين من الإدارة المدرسية ورجال التعليم ونسائه وآباء وأولياء التلاميذ وأعضاء فاعلين في المجتمع، ويعهد إلى هذه اللجنة بمحاولة دراسة الجوانب النفسية والسوسيولوجية التي تكون سببا في تعاطي الغش في الامتحانات، وبابتكار أساليب جديدة لمقاومته ووقاية التلاميذ من ممارسته، ويمكن هذه اللجان، كلا حسب وسائلها وما تصل إليه من استنتاجات، أن تقوم بتجارب تجرى في مؤسسات التعليم والتكوين، وتقوم هذه التجارب إثر كل دورة امتحانات.
وإذا تبثت فائدة بعض التجارب، يكتب بها تقرير إلى نائب الوزارة، الذي يتولى تكوين لجنة، على صعيد النيابة، يوكل إليها أمر دراسة مثل هذه التقارير وإشاعة عناصر التجارب الصالحة في سائر المؤسسات حتى تعم الفائدة ويقع تبادل التجارب وإغنائها واستفادة بعضها من بعض. ولا يغني عمل هذه اللجان عن العمل المباشر الذي يقوم به رجال التعليم ونساؤه في ممارستهم اليومية، إذ ينبغي لهم أن يغتنموا كل فرصة سانحة، سواء خلال الدروس أو خارجها، لتوعية التلاميذ و التلميذات بما يجب توعيتهم به.
وأول ملاحظة عن هذه المذكرة أنها تنتمي إلى فترة كانت تحكمها ظروف معينة، لم تعد مثل ظروف وتقنيات اليوم التي أصبحت تستعمل في الغش وعدم التنصيص عليها يجعل مضامين ومكنون المذكرة غير ذي مفعول، ثانيا إن عزل الظاهرة عن محيطها الاجتماعي والاقتصادي، يجعل أمر محاربتها صعب المنال، خصوصا وأن ما هو سائد في الثقافة الشعبية أن النظام التعليمي لا ينتج إلا البطالة.
وبالتالي فمسألة المثابرة والاجتهاد تبدو بالنسبة للبعض مجرد خبط عشواء، وهذا ما يجعل المذكرة المذكورة، بتحليلاتها التجزيئية والتقنية للظاهرة غير قادرة على القضاء على الظاهرة، وملاحظة ثالثة أن المذكرة نصت على تشكيل لجنة سمتها “لجنة الحيطة والوقاية”، وهذه التسمية خاطئة من وجهة نظر الكثير ممن تحدثنا إليهم في سياق هذه الورقة، لكون الوقاية بمثابة اتخاذ مجموعة من الإجراءات التي من شأنها أن تحول دون حدوث مشكلة ما، في حين أن ظاهرة الغش سائرة في التفشي .
وللخروج من هذه الحلقة، أجمع ثلة من نساء ورجال التعليم، أنه لا بد أن تتخلى الوزارة ومصالحها الخارجية، عن موقف التظاهر بالجهل، بأسباب الظاهرة وعوامل تطورها، ومصارحة النفس أولا بهذه الأسباب وبعد ذلك مصارحة أطر التعليم والآباء على ضوء هذه المصارحة فقط يمكن أن نبني خطة معقولة لمواجهة الظاهرة والتصدي لها.
وينطلق محدثونا في تصريحاتهم، من تساؤلهم حول متى تسرب الغش إلى نفوس التلاميذ وكيف تمكن منهم حتى أصبح يعتبر “حقا” من حقوقهم المشروع، والوسيلة المفضلة عند أغلبيته “النجاح” في الامتحانات؟، كما يتساءلون من أين جاءت “القيمة” التي أصبح يكتسيها الغش في نظر التلاميذ.
إن هذا التساؤل يسوقنا إلى مصدر القيم بالنسبة للتلاميذ، والتي ليست سوى الأسرة والمدرسة والمجتمع، الذين يتحملون مسؤولية كبرى في تربية التلاميذ على الغش، وعندما نقول المدرسة نعني بها مجموع المكونات والفاعلين الذين يسهمون في تكوين التلاميذ، التكوين المعرفي والأخلاقي، وهذا معناه أن مؤسساتنا التعليمية وقع لها تحول في وظيفتها، فمن وظيفة التنشئة الاجتماعية على قيم العمل والاعتماد على الذات، وتقدير العلم والمعرفة، أصبحت المدرسة تربي التلاميذ على تبخيس قيمة العلم والمعرفة، وتنمي فيهم عدم الثقة في الذات والاعتماد عليها في مواجهة التحديات ومن جملتها الامتحانات، ولا داعي لكي نفصل القول في مسؤولية كل طرف من الأطراف المساهمة في العملية التعليمية، مسؤولية الأساتذة والإدارة التربوية والمراقبة التربوية، مسؤولية الوزارة والسياسة التعليمية.
إن المهمة الكبرى لمجهودنا التعليمي هو تربية وتعليم التلاميذ على كيفية اجتياز الامتحانات، ولا يهم ماذا اكتسبوا من قدرات وكفاءات فكرية وثقافية، ولا ما تشبعوا به من قيم، أليس هذا في حد ذاته إيحاء بالغش؟.
أليس المنهاج الدراسي الذي يطبع ممارستنا التعليمية مسؤولا عن “التربية” على الغش، فهذا المنهاج بتهميشه لدور المتمدرس في العملية التعليمية والتعلمية وبتغييبه لكل تربية تعمل على تنمية الثقة في الذات والاعتماد عليها في كسب المعرفة وخوض غمار كل التجارب والامتحانات التي تضعها الحياة أمامنا، مناهج تغيب عن واقع الممارسة، مثل هذه الأغراض لا يمكن إلا أن يفضي بالمستهدفين منه “ضحاياه” إلى طريق الغش في الامتحانات وفي الحياة العامة.
وما من شك أن إعادة الثقة للباكلوريا وما يسبقها من مستويات تعليمية، يقتضي الاهتمام بالعنصر البشري المتمثل في الأساتذة، بتحسين وضعهم الاقتصادي والاجتماعي وتقوية أساليبهم البيداغوجية في التدريس من خلال التكوين الأساس والتكوين المستمر كلما ظهرت مستجدات في المنظومة التربوية.
وبموازاة مع ذلك، إعادة تأهيل المناهج الدراسية لتواكب متطلبات المرحلة، اقتصاديا واجتماعيا، وجعلها مشاتل لإنتاج الأطر والكفاءات، التي يمكن استخدامها والاستعانة بها لخدمة مختلف القطاعات الحيوية لأن التعليم والتكوين المبني للمجهول لا يخدم صاحبه ولا المجتمع بقدر ما يعتبر “روتينا شكليا” لا يبنى على أساس، وهذا ما يحتم على القائمين على تدبير الشأن العام، التسطير لسياسة تربوية وتعليمية تتماشى عموديا مع المخطط الاقتصادي لكل جهة على حدة، مع الأخذ بعين الاعتبار الخطوط العريضة للنموذج التنموي الجديد الذي سيقدم مقترحات وازنة وأساليب تدبير جديرة بتحقيق التنمية المجتمعية الشاملة التي ينشدها غالبية المواطنين، وأفقيا بجعل المناهج التربوية قادرة على تكريس وتجذير حضور السلوك المدني في مختلف العلائق الاجتماعية وتمتيع الإنسان المغربي بالمناعة اللازمة ضد الدواخل الغريبة عن ثقافته وسلوكه، وهذا من شأنه أن يجعل الانتماء إلى الوطن والانتصار لقضاياه مبدأ وخصلة تسكن المواطن المغربي بكل شرائحه.
نافذة :
إن الغش في الامتحانات هو عنوان بارز على فشل المؤسسة التعليمية الوطنية في القيام بدورها في التربية والتكوين، فتوصيف هذه الآفة الاجتماعية بـ”الظاهرة”، يعني أن قاعدة الممارسين لهذه العملية تتسع إلى أن كسرت الاستثناء