صدر عن دار «بلوز بري» كتاب «صلاح الدين الأيوبي» للدكتور عبد الرحمن عزام، وهو موضوع أطروحته للدكتوراه من جامعة أكسفورد. يتناول المؤلف شخصية صلاح الدين الأيوبي وكيف صاغ الغرب والشرق رؤيته لهذه الشخصية، وهذه الحكايات المتتابعة التي استهوت رواية قصص خيالية عن صلاح الدين جعلت الحد الفاصل بين الأسطورة والحقيقة التاريخية يصعب الحصول عليه.
فعلى الجانب الغربي وهو الإضافة الحقيقة للدكتور عزام في رؤيتنا لصلاح الدين الأيوبي، ترسخت سمعة صلاح الدين في أذهان الأوروبيين بفضل الطريقة التي حقق بها انتصاراته بقدر ما أسهمت في ذلك الانتصارات في حد ذاتها، فإنه بالمثل يمكن القول إن صميم تحولات الشخصية وما يدل على وجود معضلة عسيرة الحل إنما مرده إلى الطريقة التي كسرت بها شوكة الصليبيين بقدر ما ساعدت على تعزيز أيديهم، فقد أمكن تقبل الأمر واستيعابه، بيد أن طبيعة الهزيمة نفسها ولا سيما ما أظهره السلطان المنتصر، الملحد في نظرهم، صلاح الدين من فضائل الحكام ومكارم أخلاق «مسيحية « كانت مسألة أخرى.
يرى المؤلف أن محاولات الاستجابة لهذه المعضلة والسعي إلى عقلنتها بدأت تبزغ شيئاً فشيئاً. ففي غضون قرن من وفاة صلاح الدين راجت الإشاعات التي تلمح إلى اعتناقه المسيحية، كما ذاعت في حقبة مبكرة ترقى إلى عام 1251 ميلادية قصص تتحدث عن تعميد صلاح الدين سراً. بل ذهب بعض الكتاب إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ أورد ما ثيو بريس في كتابه «historia Anglorum» أن والدة صلاح الدين تحمل أصولاً إنكليزية. كما نجد حكايات عن سفر صلاح الدين إلى باريس حيث تجلت خصاله النبيلة في انخراطه في مبارزات ثنائية ووقوعه في الحب والعشق.
إلى أن يقودنا المؤلف لزيارة القيصر فيلهلم الثاني الشهيرة في عام 1898 ميلادية لمرقد صلاح الدين، حيث تأثر بالحالة المؤسفة التي وجد عليها المرقد وأصدر توجيهاته بترميمه على نفقته الخاصة وأن توضع دراسة مفصلة عن صلاح الدين فوق قنديل يتدلى من أعلى المرقد. ولعل تلك اللحظة التي قام فيها خليفة الإمبراطور فريدريك بارباروسا الذي قاد الحملة الصليبية الثالثة مع ريتشارد الأول ملك إنكلترا وفيليب الثاني ملك فرنسا، بتقديم فروض الولاء والتقدير لثأر سلفه البعيد في رأي عبد الرحمن عزام هي لحظة الذروة في الفصل بين شخصية صلاح الدين الأسطورية وشخصيته الحقيقة التاريخية.
على الجانب الآخر في الشرق المسلم يرى عبد الرحمن عزام أن صورة صلاح الدين اتخذت شكلاً مغايراً في الشرق، فبينما كان الغرب مهووساً على الدوام بالحروب الصليبية لم يكن المسلمون يبادلونهم هذا الاهتمام، بل أن مصطلح الحروب الصليبية لم يكن مستخدماً حتى منتصف القرن التاسع عشر، وقد تم اقتباسه بشكل كبير من أوروبا.
لكن الاحتــلال الأوروبــي لعدد كبير من البلدان العربية والإسلامية، استدعى آلام الحروب الصليبية التي كانت قد اندملت، واستحضرت رؤية للحروب الصليبية، كما يرى عزام من منظور مناهض للإمبريالية، وعلى هـذا تم إحيـاء فكرة الجهاد وأسطورة صلاح الدين في المخيلة العربية الإسلامية، حتى صورة المخرج المصري يوسف شاهين أحد أبطال الاشتراكية العربية.
يرى عبد الرحمن عزام أنه مثل شخصية جودو في مسرحية صامويل بيكيت، فقد أصبح صلاح الدين في أذهان المسلمين مخلصاً سياسياً ومحرراً طال انتظاره. ونظراً لأن الجراح غائرة، يرى المؤلف أن المسلمين لن ينسوا يوماً الحملات الصليبية على أراضيهم بسبب الدعم الغربي اللامحدود لإسرائيل.
من هو صلاح الدين؟
يسرد المؤلف سيرته الذاتية بصورة ممتعة، حتى تكون رواية تاريخية تستدعي من التاريخ وقائعه ومن اللغة حسها المرهف في التعبير، فقد أثرت وفاة صلاح الدين عن عمر يناهز الخامسة والخمسين على المسلمين بشدة، ففي يوم 4 آذار (مارس) 1193 ميلادية، خرج أبناء صلاح الدين في دمشق يتلقون العزاء من عموم الناس، خيم على المدينة الحزن والفزع، وهي المرة الأولى التي يصاب فيها الناس بالحسرة والألم لوفاة حاكم. حتى ذكر أحد المؤرخين: «لقد حزن على فراقه الرجال كما يحزنون على فراق الأنبياء. فقد أحبه الجميع، البار والفاجر، الصالح والطالح، المسلم وغير المسلم على حد سواء».
لم يترك صلاح الدين الأيوبي وراءه منزلاً أو أرضاً أو أي صنف من صنوف الممتلكات، بل لم يتوافر المال الكافي لسداد تكاليف جنازته، ولا حتى لشراء كفنه.
كان صلاح الدين الأيوبي غريباً عن سياق عصره، كردياً في زمن الأتراك، وأيوبياً في زمن الزنكيين، وعلى رغم ذلك وفي عصر التحالفات قصيرة الأمد والوعود الخادعة، بزغ نجمه ليصبح الرجل الأكثر قوة في البلاد، وهو فعل ذلك ببراعة وسلاسة من دون إراقة نقطة دم واحدة.
محرر القدس من قبضة الصليبيين تعاملت معه أيضاً في أطروحتي للدكتوراه عن العلاقة الســياسية بين العمارة من عصر صلاح الدين إلى عــصر الخديوي إســماعيل، فوجدت رجل دولة من طراز فريد قوته الحقيقة تكمن في اعتماده على الكفاءة لاختيار رجال حكمه مثل الحماد الأصفهاني العالم الورع، وبهاء الدين قراقوش رجل الدولة الحازم القاطع القوي الذي لا يتهاون مع أي شيء، وأسعد بن مماتي وزير ماليته القبطي الأمين، وغيرهم، فالحاكم القوي رجاله أقوياء عظماء يضيفون إلى قوته ولا يخصمون منها شيئاً.