يتتبع العالم بأسره الآن بكل حسرة وألم شديدين تطورات جائحة “كورونا فيروس” وهي تفتك بالأبدان بمختلف البقاع، حيث تكد تسلم من سطوة وبطش هذا الفيروس القاتل بقعة من بقع العالم إلا وافترس أبدان رجالها ونسائها وحتى بعض صغارها، منهم من فارق دار الفناء إلى دار البقاء ومنهم من لا زال يصارع ويتمسك بالحق في الحياة، مخلفا بذلك جراحا وآلاما وندوبا عميقة على الإنسانية جمعاء، لن تندمل بسهولة مهما طال الزمان،والامل معقود بعد الله تعالى وبتوفيق منه على العلماء والأطباء لإيجاد لقاح فعال يوقف زحف وفتك كورونا على الأبدان، ويرجع للحياة وميضها وبريقها من جديد،غير إنه من كان يعتقد مناّ أن لكورونا الأبدان ولله الحمد فضائل وحسنات، على سلوكياتنا وتعاملاتنا وأخلاقنا، نعم أخلاقنا ..!!!
أفلم تخرج كورونا الأبدان أحسن ما فينا كبشر من شيم وأخلاق، من تآزر وتضامن ومحبة ومودة ورحمة…، لقد أنستنا حالة الترقب والخوف وحتى حالة الهلع من مواجهة شبح خفي ومصير مجهول، والتي أصبحت تنتاب البعض منا وساهم فيها بقصد أو بدون قصد وباء المعلومات -كما سماها دكتورنا محمد الخضراوي نائب رئيس الودادية الحسنية للقضاة في مقالته القيمة فيروس كورونا ووباء المعلومات: أي تفاقم للأزمة؟- والذي يتحمل مسؤوليته كل واحد منا عندما يصدق أي خبر أو أية معلومة دون ان يتحرى مصداقيتها ومصدرها الصحيح،ولن أذهب في التشخيص والتحليل بعيدا، إذ يكفي مطالعة سريعة لمنصات التواصل الاجتماعي والمواقع والجرائد الالكترونية للوقوف عن كثب على زخم الحالات والمواقف الإنسانية العظيمة التي سجلها الانسان عبر العالم في أوج هذه الأزمة الصحية العابرة للقارات، بنصرة أخيه الانسان والتضامن معه، سواء تعلق الأمر بالأفراد او بالجماعات او المؤسسات والدول…، فها هي وداديتي الحسنية للقضاة كجمعية قضائية مهنية مواطنة بقيادة والدنا وأخينا وزميلنا السيد الرئيس سيدي عبد الحق العياسي، تضرب موعدا مع التاريخ وهي تسجل بمداد من ذهب موقفا تضامنيا استثنائيا في صفوف القضاة، وأخص بالذكر هنا بحكم مكان تواجدي بالنيابة العامة باستئنافية الدار البيضاء، المكتب الجهوي بنفس المدينة، حيث أبى أخي وزميلي الأستاذ محمد رضوان -الجندي المجند في البر والبحر والجو كما أحب أن ألقبه- بمساندة ومساعدة باقي السادة أعضاء المكتب الجهوي الكرام إلا أن يشاركوا السادة القضاة والسيدات القاضيات بالدائرة القضائية بالدار البيضاء توجساتهم من خطر الإصابة بجائحة كروونا وهم يواصلون أداء رسالتهم القضائية بالمحاكم في سبيل خدمة الوطن والمواطن بكل إخلاص وتفان ووطنية ومسؤولية، وهبّوا لوقايتهم وحمايتهم من خلال توفير مختلف وسائل السلامة والوقاية الطبية التي عزّ شانها وقيمتها في هذا الوقت، خصوصا وأن واجبنا كقضاة يفرض علينا على الأقل في هذه المرحلة التعامل مع المئات والآلاف من الأوراق والوثائق والملفات والمحجوزات وحضور الجلسات وإجراء الاستنطاقات والاستماعات واستقبال عشرات ومئات الاتصالات والمكالمات الهاتفية للمواطنين والضابطة القضائية والتنقل بين مختلف مرافق وشعب المحكمة لمعرفة المآلات والبحث عن عناصر الجواب للمراسلات الإدارية وشكايات وتظلمات مرتفقي العدالة وغيرها من الإجراءات الأخرى…، وهي كلها إجراءات بطبيعتها يمكن أن تشكل مصدرا محتملا لانتقال عدوى فيروس كورونا،
لن أخفيكم سعادتي البالغة وأنا أتسلم من السيد رئيس المكتب الجهوي للودادية الحسنية للقضاة حصة النيابة العامة بمحكمة الاستئناف من أدوات التنظيف والتعقيم والوقاية والسلامة الطبية لأشرف على عملية توزيعها بمرفق النيابة العامة، بعدما وجدته غارقا وسط مكتبه بالطابق الثالث من بناية المحكمة القديمة -بعدما رفض الالتحاق بمكتبه الجديد بالبناية الجديدة حتى يفسح المجال بكل تواضع وكرم لغيره من القضاة الاستفادة منه- وسط العشرات من الصناديق المملوءة عن آخرها بأدوات السلامة والوقاية والطبية، رفقة موظف وحيد كلّفه بعملية فرز نصيب كل قاض من الأدوات الوقائية الطبية بكل دقة ووضعها في كيس على حدة، وفق تنظيم محكم ودقيق يعكس رغبته في ضمان استفادة الجميع وعلى قدر المساواة…،
ولحرارة الموقف ورقّة المشهد كدنا أن نسلم على بعضنا البعض، لولا أن حالت بيننا الكراسي والصناديق..، فقلت مع نفسي “غريب أمر هذا الرجل كيف يستطيع أن يوفق بين حياته الخاصة وحياته المهنية والكل يشهد انه دائما متواجد لنصرة القضاء والقضاة في الأفراح والاحزان، وكيف لم يردعه الخوف من جائحة كورونا ليعتزل مكتبه الضيق وحده رفقة موظف واحد ووسط العشرات من الصناديق والعلب دون الحديث عن عشرات الملفات والوثائق التي يضج بها مكتبه، وبدون كمامة وبالكاد يضع قفازات طبية والابتسامة لا تفارق محياه…، سعيد لسعادة القضاة…، ثم ما لبث أن قاطعني وكأنه قرأ ما يجول في خاطري: (“كما ترى يا أستاذ هذا الواجب، فكما ان القضاة مستعدون للموت من اجل المواطن وهم يؤدون رسالتهم بالمحاكم بلا كلل أو ملل، نحن أيضا بالودادية الحسينة للقضاة مستعدون للموت من اجلهم في سبيل حمايتهم ووقايتهم..” ثم مازحني “ياك كورونا لا تخيف النيابة العامة،” وهو يقصد حوارا مصورا سبق لي أن أجريته مع إحدى المنابر الإعلامية بتكليف من السيد الوكيل العام للملك في إطار استعراض التدابير الوقائية التي قامت بها النيابة العامة للوقاية من جائحة كورونا لحماية مرتفقي العدالة وطاقم عمل النيابة العامة، قلت له بكل تأكيد نحن نعمل 24/24 ساعة وهذا قدرنا ولا حذر من قدر، ثم ضحكنا معا، وقلت له إن ما تقوم به الودادية الحسنية للقضاة الآن فيه اجر الدنيا والآخرة وهذا هو المطلوب من الجمعيات القضائية المهنية في هذه الظرفية الحالية..)
وازدادت سعادتي وفخري واعتزازي وأنا أسلم السادة نواب الوكيل العام للملك المرابطين بمكاتبهم بالطابقين الثالث والثاني ببناية النيابة العامة حصتهم من أدوات السلامة والوقاية الطبية، واتلقى نيابة عن الودادية الحسنية للقضاة عبارات الشكر والتقدير والثناء، وابتسمت كثيرا عندما قلّب أحد زملائي الأدوات الطبية بعناية ثم رفع رأسه وقال لي: “إنها من النوع الجيد..شكرا لكم” فقلت له “تستحقون الأفضل”..
ولا زالت عملية التوزيع مستمرة، ولأن كرم المكتب الجهوي للدار البيضاء كرم حاتمي طائي، شملت عملية التوزيع حتى بعض السادة موظفي كتابة النيابة العامة الذين استحسنوا وثمنوا المبادرة وشكروا الودادية الحسنية للقضاة.
علما ان الامر يتعلق بالدفعة الثانية من أدوات السلامة والوقاية والتي تضمنت وسائل وأدوات جديدة للسلامة والتعقيم، بعدما سبق لأعضاء المكتب الجهوي بالدار البيضاء أن أشرفوا على تسليم وتوزيع الدفعة الأولى،
نعم، يمكن القول بان “كورونا” انتصرت على الأبدان لحد الساعة، لكنها حتما لم ولن تنتصر على الأخلاق التي هي رأسمالنا وتاج رؤوسنا جميعا باقية فينا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،
فقد تأخذ منا “كورونا” لا قدّر الله أبداننا وأجسادنا، ولكنها حتما لن تنتزع منا إنسانيتنا وآدميتنا بسمو أخلاقنا وتضامننا وعزتنا… فالله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه…
ومسك الختام، انه يمكن للساهرين على الودادية الحسنية للقضاة والقائمين بشؤونها بكافة أجهزتها المختصة رئاسة ومكتبا مركزيا ومكاتب جهوية ولجان وكافة جنود الخفاء، أن يناموا قريري الأعين بأنهم وفّوا وكفّوا وبرهنوا عن وطنيتهم الصادقة ومحبتهم الخالصة للقضاة في ظرفية عامة صعبة تجنّدت لها كافة مصالح ومؤسسات الوطن، فشكرا لكم وشكرا ل”كورونا” التي أبانت عن دماثة اخلاقكم وحسن صنيع اعمالكم،
نعم، إنها كورونا الأخلاق وليست كورونا الأبدان، فقد تصحّ الأبدان وتسقم الأخلاق، فسعدى لمن حسنت ودمثت اخلاقه وقيمه، وتعسا لمن ساءت اخلاقه واسودت جريرته،
حفظنا الله جميعا ووطننا الحبيب من شرّ الأسقام والأمراض ورفع عنا وعن العالمين البلاء، وأمطرنا بشآبيب رحمته ولطفه، إنه وليّ ذلك والقادر عليه، آمين يا رب العالمين
“كورونا الأبدان” أم “كورونا الأخلاق”
أخباركم