أخباركم : متابعة
خلال لقاء مع أحد أعمدة الصناعة التقليدية بالمغرب و أحد من لهم لمسات إبداعية في مجال الخزف و هو المعلم مولاي أحمد السرغيني، شرح لي كيف هو حال الصناعة التقليدية و الأزمة الخانقة التي يعيشها المعلمين و الصناع و كل من يوجد مصدر رزقه في هذا الميدان. كان يتكلم بكثير من الحرقة على أوضاع زملاءه و هو الذي كان رئيسا لغرفتهم بمدينة أسفي . المسألة تحتاج حسب قوله إلى قرارات سياسية مبتكرة. حافة الإفلاس قريبة جدا تزيدها بعض الأحكام القضائية ضد بعض” المعلمين” حدة. الموضوع اثارني لأنه حيوي بالنسبة لقطاع يمثل الشخصية المغربية ذات الجذور القديمة . صحيح أن أزمة الكوفيد عمقت أزمة الصناعة التقليدية، لكن غياب نظرة إستراتيجية تظل السبب الرئيسي في إستفحال اوضاعها.
لمسات الجمال ولدت من رحمها، مواهب صناع ابتكرت في تطويرها، آلاف الصناع عاشوا في كنفها و ملايين المنتوجات تدفقت في الأسواق بفعل مجهودات امتدت على مئات السنين لتساهم في صنع شخصية المفربي المعتز ببيته و ملبسه و مطبخه و زينة محيطه و بهاء طلعته في حفلات اعراسه و افراحه و حتى في التعبير عن لحظات أحزانه. مشهد لا تعبر عن غناه و تنوعه إلا ما نسميه منذ زمان و ربما تحت تأثير المستعمر بالصناعة التقليدية.
آثارنا و قصورنا و مدننا و مداشرنا و كل مكان يجمعنا هو ذلك المعرض الذي يجسد إبداع الصانع التقليدي. كان الفعل الوحيد الذي جعل من صناعنا نساءا و رجالا حاضرين في أسواقنا و بيوتنا بل و حتى في بيوت من زاروا مغربنا كسياح ذلك الجهد الذي بذلوه بفن ابتكروه و جعلوه محبوبا مرغوبا لأنه مغربي و جميل. إنها الصناعة التقليدية وأكاد أرفض أنها صناعة تقليدية لأنها صناعة عصرية بامتياز و لأنها تعيش في توافق مع القرن الواحد و العشرين و لها من الأسرار ما يجعلها قادرة على إختراق الأزمان.
و الآن في هذا الحاضر المتأزم نعيش أزمة المحافظة على مكون أساسي لوجودنا كصناع للغد المغربي المتجدد.
صمدت الصناعة التقليدية رغم أزمات أصابتها في القلب. مرت حرب الخليج الأولى و الثانية و أرخت بظلالها على قوت و وواقع الصناع التقليديين و تجرعوا الصدمات و صمدوا. و جاءت الأزمة المالية ثم الإقتصادية لسنة 2008 فاصابت الإقتصاد الإجتماعي بعنف و قاوم الصناع التقليديون قدر الإفلاس وواجهوا مخاطر الإفلاس و صمدوا. و لكنهم اليوم أصبحوا على شفى حفرة من إعلان افلاسهم لأنهم وجدوا أن الأزمة الحالية و غياب التجاوب الحكومي مع واقعهم مبعث اقتناع أنهم يقتقدون إلى أي دعم أو سند لمواجهة هول ما يواجهونه لوحدهم في غياب سياسة حكومية قد تمكن من الحفاظ على مكنون ثقافي و رأسمال لا يمكن فصل أثاره عن الآثار التي تحدثها قطاعات إقتصادية كصناعة السيارات و الصناعة التحويلية للفوسفاط و حتي لما يتم إنجازه على مستوى قطاع الخدمات.
الصناعة التقليدية تحتضر و تحتاج أن تدخل إلى غرفة الإنعاش. صناع في أوج عطاءاتهم الإبداعية يجدون أنفسهم خارج دائرة الإهتمام. الكل يعلم أن الصانع التقليدي يعيش بجهده اليومي ليضمن قوت أسرته. و الكل يعرف أيضا أن المقاولة العاملة في مجال الصناعة التقليدية تعيش في مجال الهشاشة و لا تتمكن من ربط تكاليف استمراريتها بالطلبات الواردة إليها من سوق متذبذب. العلاقة بين الصانع و المعلم ليست علاقة عامل مهني في مجال الصناعة بصاحب مصنع موجهة منتوجاته لسوق خارجية أو داخلية في إطار برنامج طلبيات في إطار متوسط المدى. المشكل أن الصانع التقليدي مهما كانت قدرته يظل يعيش في إطار الأمد القصير.
اليوم، و في ظل آثار أزمة الكوفيد ، يجد الصانع التقليدي نفسه أمام حالات عسر كبيرة. له علاقات نفسية و مهنية مع العاملين لديه و هو الذي يوجد في وضعية هشاسة لا تميزه عن العاملين في ورشته. حكى بعض ” المعلمين ” أنهم صدموا حين رأوا أن بعض الصناع الماهرين فضلوا بيع النعناع و بعض الخضر و الفواكه على الإستمرار في العمل في ورشة لدى ذلك “المعلم ” الذي لم تعد له القدرة على تأمين دخل يمكنهم من ملىء قفة عيش لأبنائهم. ووجد بعض أصحاب الورش المهن التقليدية أنفسهم أمام حدة الأزمة الصحية الحالية و آثارها و حدة أحكام قضائية لفائدة من بعض من كانوا يشتغلون في ورشاتهم. فهم الذين لا إمكانية لديهم لكي يستمروا في إنتاج السجاد و الحقيبة والقفطان و الفخار أصبحوا في مواجهة أحكام قضائية لا قدرة لهم على مواجهة تكاليفها. و قد يفضلون الحكم بافلاسهم بدل إخلاء منازلهم لكي تباع في مزاد علني. قال بعض ” المعلمين ” أن احكاما صدرت ضدهم في زمن الكوفيد تفرض عليهم أداء تعويضات لمن كانوا بالنسبة لهم مساهمين في ابداعاتهم و ليسوا مجرد عاملين بأجر شهري.
الصناعة التقليدية رأسمال أمة و شعب لا يمكن التفريط فيه. لكل هذا و لكل ما سبق، أصبح من الواجب الاستيقاظ من سبات أصاب بعض التقنوقراط الذين لا قدرة لهم و لهن على فهم ما جرى و ما سوف يجري في قطاع اقتصادي يتأثر سريعا بما يتم اتخاذه من قرارات. الصناعة التقليدية هي في الأصل ثقافة تبنى على الحرص على تمكين الشباب من رأسمال كبير يتمثل في التكوين و التثقيف و نقل التجربة من جيل إلى جيل.
ولأن بعض الممارسات السياساوية تسربت إلى جسم الصناعة التقليدية، فقد أصبح بعض رؤساء الغرف من ممتهني حرف لا علاقة لها بالصناعة التقليدية. و للعلم فقد ترأس مصورون و فوتوغرافيون و أصحاب مقاهي وأصحاب حمامات و من لا علاقة لهم بالمنتج التقليدي مهام رؤساء لغرف مهنية بتواطؤ حزبي مقيت و تحكموا في مصير الكثير ممن ينتمون فعلا للصناعة التقليدية. ووصل بعضهم إلى البرلمان و الحكومة و هم لا يعرفون أي شيء عن الصناعة التقليدية. و كل هذا تم في ظل تواطؤ كبير بين الكثير من محترفي السياسة و بعض الصناع التقليديين. و لقد أصبح من اللازم اجلاء المتطفلين على الصناعة التقليدية عن هذا المجال الذي لا يجب أن يدخله غير المبدعين.
و الأكثر من هذا، أصبح الولوج إلى منصب وزير أو وزيرة الصناعة التقليدية متاحا لكل من رشحه حزبه للمنصب دون أن يكون له إلمام بما يتطلبه هذا المنصب. و يتناوب الوزراء على المنصب و يعلنون بصخب عن عزم و إرادة لانصاف الصانع التقليدي. يسافرون و يحضرون حفلات في الخارج و الداخل ثم يرحلون إلى مناصب أخرى و تظل الصناعة التقليدية على ما هي عليه.
اليوم صعب و عصيب و يتطلب قرارات تحافظ على الصناعة التقليدية. الصناع التقليديون لا يطلبون هدايا و لكنهم يطلبون الإنصاف بالمقارنة مع حصل عليه الفلاحون و الصناعيون و التجار الكبار. هؤلاء استفادوا و لا زالوا يستفيدون من تسهيلات ضريبية و تمويلية في الوقت الذي تختنق فيه الصناعة التقليدية تحت ضغط أزمة السوق و هشاشة التغطية الإجتماعية و ضعف التمويل وغياب التحفيز الضريبي و ضغط الأحكام القضائية. و يزيد الضغط على الصناع التقليديين من خلال تغييب دورهم التنموي و استغلالهم من طرف وسطاء لا يهمهم سوى الربح السريع أو تسجيل مواقف غير ذات أثر على استمرار الإبداع في مجال الصناعة التقليدية.
و سيظل السؤال الذي يتطلب جوابا عبر سياسة قطاعية حقيقية هو: هل نريد أن نحافظ على الموروث الثقافي المتمثل في الصناعة التقليدية أم هناك بعض منا لا يهمه أن يفقد المغرب كنزا من كنوز ثقافته. المؤكد أن ملوك المغرب عبر التاريخ لم يفرطوا أبدأ في إبداع الصانع التقليدي. خذوا العبرة من سلوك الملوك المغاربة منذ قرون و المغاربة الاقحاح يا من لهم سلطة القرار في تنفيذ السياسات العمومية. وجب أن نأخذ المثال و العبرة و النظرة الاستراتيجية من الراحل الكبير الحسن الثاني الذي ساعد على إحياء حرف قديمة من خلال بناء معلمات كبرى تجسدت في ضريح محمد الخامس و مسجد حمل إسمه و لا زال شامخا و مطلا بهيبته و جماله على ما سمي قديما ببحر الظلمات. ووجه المهندسين المعماريين بالمحافظة على كنوز الإبداع المغربي و أستمر هذا الإبداع بفعل عاهل البلاد الملك محمد السادس الذي أسس لسياسة إعادة إعمار المدن العتيقة و أثر بكثير من الوعي في مشاريع بناء الفنادق و القرى السياحية. و لولا هذه الإرادة لما عاشت مهن كثيرة تضفي الكثير من الجمال على الإبداع المغربي.
و السؤال يا أصحاب القرار هو مدى معرفتكم بما ستؤول إليه مهن الصناعة التقليدية. بإمكانكم التحكم في مصير الآلاف من العاملين في استمرار إبداع مغربي أصيل. الصانع التقليدي لا يريد هبة او صدقة بل سياسة قطاعية تهتم بحماية المنتوج الوطني و تسد الباب أمام أجانب يريدون تشويه أعمال عمرها يمتد إلى قرون مضت دون أن تستسلم أمام مغريات سوق أصبح بعض الأجانب يتحكمون في آليات. القرار قراركم و المسؤولية مسؤوليتكم و صناع مجد المغرب ينتظرون من يفهمون ارتباط المغربي بالجميل من إبداع اجداده. القرار بين أيديكم لكي تكونوا حصنا ضد اضعاف منتجاتنا التقليدية الجميلة و حماية المبدعين من الهشاشة . الصانع التقليدي يحتاج إلى حماية اجتماعيه حقيقية تقيه من دفن تجربته و اللجوء إلى بيع النعناع بدل كره ذلك اليوم الذي ولج فيه إلى تعلم حرفة اوصلته إلى الهشاشة الإجتماعية.